الأعرابي الذي جاء إلى القبر
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ، أما بعد:
فقد كتب أحد الصوفية هذا الحديث مستدلاً به على الاستغاثات الباطلة ، والذي نصه الآتي: (روى أبو الحسن علي بن إبراهيم بن عبد الله بن عبد الرحمن الكرخي عن علي بن محمد بن علي ثنا أحمد بن محمد بن الهيثم الطائي ثنا أبي عن أبيه عن سلمة بن كهيل عن أبي صادق عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قدم علينا أعرابي بعد ما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام ، فرمى نفسه على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وحثا على رأسه من ترابه وقال: يا رسول الله: قلتَ فسمعنا قولك ، ووعيت من الله عز وجل ما وعينا عنك ، وكان فيما أنزل الله تبارك وتعالى عليك: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً} وقد ظلمت نفسي ، وجئتك لتستغفر لي فنودي من القبر: إنه غفر لك)
الكلام على سند هذا الحديث
يقول الشيخ محمد بشير السهسواني رحمه الله تعليقاً على هذا الحديث في كتابه "صيانة الإنسان": هذا الخبر ضعيف جداً حتى قيل إنه موضوع. قال في "الصارم المنكي": فإن قيل أنه روى أبو الحسن علي بن إبراهيم ...... فنودي من القبر: إنه غفر لك.
والجواب: أن هذا الخبر منكر موضوع ، وأثر مختلق مصنوع لا يصلح الاعتماد عليه ، ولا يحسن المصير إليه ، وإسناده ظلمات بعضها فوق بعض ، والهيثم جد أحمد بن محمد ابن الهيثم أظنه ابن عدي الطائي فإن يكنه فهو متروك كذاب ، وإلا فهو مجهول ، وقد ولد الهيثم بن عدي بالكوفة ونشأ بها وأدرك زمان سلمة بن كهيل فيما قيل ، ثم انتقل إلى بغداد فسكنها ، قال عباس الدوري: سمعت يحيى بن معين يقول: الهيثم بن عدي كوفي ليس بثقة ، كان يكذب ، وقال العجلي وأبو داود: كذاب ، وقال أبو حاتم الرازي والنسائي والدولابي والأزدي: متروك الحديث ، وقال السعدي:ساقط قد كشف قناعه. وقال أبو زرعة: ليس بشيء. وقال البخاري: سكتوا عنه ، أي اتركوه. وقال ابن عدي: ما أقل ماله من المسند ، وإنما هو صاحب أخبار وأسمار ونسب وشعر.
وقال ابن حبان: كان من علماء الناس بالسير وأيام الناس وأخبار العرب ؛ إلا أنه روى عن الثقات أشياء كأنها موضوعات ، يسبق إلى القلب أنه كان يدلسها. وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث. وقال الحاكم أبو عبد الله: الهيثم بن عدي الطائي في علمه ومحله حدث عن جماعة من الثقات أحاديث منكرة. وقال العباس بن محمد:سمعت بعض أصحابنا يقول قالت جارية الهيثم:كان مولاي يقم الليل يصلي فإذ أصبح جلس يكذب.اهـ
قال الذهبي في ترجمة الهيثم بن عدي الطائي: أبو عبد الرحمن المنبجي ثم الكوفي قال البخاري: ليس بثقة،كان يكذب، قال يعقوب بن محمد حدثنا أبو عبد الرحمن من أهل منبج وأُمهُ من سبي منبج، سكتوا عنه. وروى عباس عن يحيى:ليس بثقة، كان يكذب. وقال أبو داود: كذاب. وقال النسائي وغيره: متروك الحديث.
قلتُ: كان إخبارياً علامة ، روى عن هشام بن عروة وعبد الله بن عياش المشرف ومجالد. وقال ابن عدي: هو أوثق من الواقدي، ولا أرضاه في شيء. قال عباس الأودي: حدثنا بعض أصحابنا قال: قالت جارية الهيثم بن عدي: مولاي يقوم عامة الليل يصلي، فإذا أصبح جلس يكذب. انتهى ملخصاً.
وفي الميزان: الهيثم الطائي الآخر هو أيضاً كذاب، ولفظه هكذا: الهيثم بن عبد الغفار الطائي بصري مقل تالف.قال أحمد:عرضت على ابن مهدي أحاديث الهيثم بن عبد الغفار عن همام بن يحيى وغيره فقال:هذا يضع الحديث. وسألت الأقرع وكان صاحبنا حديث عن الهيثم فذكر نحوه.قال أحمد:وسمعت هشيماً يقول:ادعوا الله لأخينا عباد بن العوام سمعته يقول:كان يقدم علينا من البصرة رجل يقال لهُ الهيثم بن عبد الغفار فحدثنا همام عن قتادة وأبيه وعن رجل يقال له ابن حبيب وعن جماعة،وكنا معجبين به،فحدثنا بشيء أنكرته أو ارتبت به ثم لقيته بعد فقال لي:ذلك الحديث دعه ، فقدمت على عبد الرحمن بن مهدي فعرضت عليه بعض حديثه فقال: هذا رجل كذاب،أو قال: غير ثقة. وقال أحمد: ولقيت الأقرع بمكة فذكرت له بعض هذا فقال:هذا حديث البري عن قتادة، يعني أحاديث همام، قال:فخرقت حديثه وتركناه بعد. اهـ ) .
الكلام على متن هذا الحديث
يقول الشيخ محمد نسيب الرفاعي رحمه الله في كتابه القيم (التوصل): "إن هذا الحديث ألغامه موجدة في متنه … فضلاً عن سنده ، وفيه من الطامات ما لا يشك فيه مسلم أنه موضوع مكذوب وذلك من وجوه:
1- نحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي دفن في بيت عائشة أم المؤمنين فإذا كان الأعرابي فعل ما فعل … على الشكل الذي يرويه الحديث فلابدَّ أنه دخل بيت عائشة .. وكيف يدخل عليها دونما استئذان … ؟ لأن الحديث خلا من ذكر الاستئذان،وهب أنه استأذن .. فكيف تمكنه عائشة رضي الله عنها،من أن يفعل ما يفعل من الارتماء على القبر،وحثو التراب منه على رأسه؟!
2- ثم إن الحديث مروي عن علي رضي الله عنه .. وهو الذي يروي عن الأعرابي ما فعل على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد أن يكون عليٌّ قد رآه فلو أنه سمع فقط دون أن يراه .. فمعنى ذلك أنه سمع من شخص آخر رواية عنه،ولكن لم يذكر هذا الشخص الذي سمع منه ما فعل الأعرابي … فعدم ذكر الشخص الذي سمع منه يدل على أن علياً رأى ما فعل … لا سماعاً من غيره …إذاً ثبت أن علياً رأى ما فعله الأعرابي ما يفعل على القبر .. فكيف لم ينهه عن ذلك؟ لأن الرواية لا تشير أن علياً نهاه .. فعدم النهي عن فعل يفيد الإقرار،فكيف يسكت علي رضي الله عنه عن فعل الأعرابي ولا ينهاه .. وهو يعلم أنه عمِلَ عَمَلَ الجاهلية فهذا لا يعقل صدوره عن علي رضي الله عنه ألبته،لا سيما وإن أبا صادق الذي يروي الحديث عن علي لم يثبت سماعه عن علي رضي الله عنه.
3- ثم إن الحديث يروى عن الأعرابي أنه قال: يا رسول الله:قلت:فسمعنا قولك،ووعيت من الله ما وعينا عنك. فيعلم من هذا أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يسمع من شخص لابد أنه رآه واجتمع به … ثم إن السماع مع الوعي عنه صلى الله عليه وسلم يفيد أنه سمع فوعى وهذه صفات شخص فاهم بصير مما يدل على أن الأعرابي صحابي فاهم بصير .. فصحابي هذه صفته وهذا شأنه … أيعقل أنه يرتمي على قبر الرسول ويحثو منه التراب على رأسه … وهو يعلم أن هذا من عمل الجاهلية،والذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4- يقول الأعرابي: ووعيتَ من الله ما وعينا عنك،ولكن العكس هو الصحيح.فإن رسول الله لم يعِ من الله ما وعاه منه صحابته ، بل وعى منه صحابته ما وعى هو عن الله ، ولاشك أن الفارق ظاهر بين العبارتين … لأن عبارة الأعرابي أن الصحابة وعوا من رسول الله ما وعوه منه قبل أن يعي رسول الله ما وعاه عن ربه … وشتان بين قول الأعرابي الخاطئ وما بين القول الذي كان يجب أن يقوله ومثل هذا القول لا يقوله أعرابي فصيح ، فضلاً عن أعرابي من أهل البادية بصرف النظر عن كونه صحابياً أيضاً … يعرف جيداً أنه ما وعاه رسول الله عن ربه كان قبل أن يتلقاه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقول الأعرابي يدل على أن القرآن تلقاه الصحابة عن رسول الله قبل أن يتلقاه رسول الله عن ربه.!!!
وهذا لا يقوله مسلم ما فضلاً عن صحابي فاهم بصير.
ولعله من الدسائس التي يراد منها:أن القرآن من كلام محمد صلى الله عليه وسلم ، والعيــاذ بالله.